الدكتور زين بن محمد العيدروس استاذ السنة المشرفة وعلوم الحديث بجامعة حضرموت
وخطيب جامع الروضه
(( سؤال عن ترك الجمعة والجماعات في المساجد بسبب مرض كورونا، وجوابه ))
س- ما حكم الشرع في ترك الجمعة والجماعات في المساجد بسبب مرض كورونا ، وخصوصا بحضرموت، مع وجود من يدعو لتركها في المساجد، علما أنه لم تُسجل أيّ حالة إصابة ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
نسأل الله تعالى اللطف والإعانة ، وأن يحفظ المسلمين من الأوبئة والأمراض ما ظهر منها وما بطن :
نصّ الفقهاء أن من أعذار الجمعة والجماعة وجود مرض مُحقق بالمسلم ونصَّ المتقدّمون على أمراض مُعدية كالطاعون والجذام والبرص ونحوها، وقد قال أهل الطب في الوقت الراهن : أن مرض كورونا مرض مُعدٍّ ، ونصّ الفقهاء أن الخوف على النفس أو الغير عُذر من أعذار الجمعة والجماعة، قال العلامة زكريا الأنصاري الشافعي ـ رحمه الله ـ : ( (وخوف على معصوم ) من نفس أو عرض أو حق له أو لمن يلزمه الذّب عنه) [ فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب1/109. ومثله في شرح المحلي على المنهاج 1/258 ].
وقد سئل العلامة ابن حجر الهيتمي بما صورته ـ رحمه الله ـ : ( نقل القاضي عياض عن العلماء أن الأجذم والأبرص يمنعان من المسجد ومن الجمعة ومن اختلاطهما بالناس. فهل المنع مما ذكر على سبيل الوجوب أو الندب؟ وهل يكون ما ذكر عذرا لهما مسقطا عنهما الحج والعمرة؛ لاحتياجهما إلى المسجد والاختلاط بالناس أم لا؟ أو يفرق بين الجمعة وبين الحج والعمرة بعدم تكررهما دون الجمعة؟ وهل حج التطوع كالفرض أم لا؟
فأجاب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: قال القاضي: قال بعض العلماء: ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أنه يجتنب؛ ليحترز منه، وينبغي للسلطان منعه من مخالطة الناس، ويأمره بلزوم بيته ويرزقه إن كان فقيرا ؛ فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله عنه والعلماء بعده من الاختلاط بالناس. قال النووي في شرح مسلم: وهذا الذي قاله هذا القائل صحيح متعيّن ولا يعرف عن غيره خلاف. أهـ وبه يعلم أن سبب المنع في نحو المجذوم خشية ضرره، وحينئذ فيكون المنع واجباً فيه، وفي العائن كما يعلم من كلامهم بالأولى حيث أوجبوا على المعتمد خلافا لمن نازع فيه على المحتسب الأمر بنحو صلاة العيد، ومنع الخونة من معاملة النساء؛ لما في ذلك من المصالح العامة، وأن المدار في المنع على الاختلاط بالناس، فلا منع من دخول مسجد وحضور جمعة أو جماعة لا اختلاط فيه بهم، وحينئذ ظهر عدم عد ذلك عذراً في ندب أو وجوب الحج أو العمرة ولو كفاية؛ لإمكان فعلهما مع عدم الاختلاط، وبفرض أنه لا يمكن إلا مع ذلك يجاب: بأن وجوب النسك آكد من وجوب الجمعة، فلا يلزم من عدّ ذلك عذراً فيها، فلا يرد على ذلك ما اعتمدته في شرح العباب أن خبث الريح عذر فيها وإن لم يختلط ـ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ـ ) [الفتاوى الكبرى الفقهية1 / 212 ].
وجاء في التحفة لابن حجر : (ومن ثم منع نحو أبرص وأجذم من مخالطة الناس، وينفق عليهم من بيت المال أي: فمياسيرنا فيما يظهر، أمّا ما تسُهل معالجته فليس بعذر، فيلزمه الحضور في الجمعة، ويسن السعي في إزالته، فعلم أن شرط إسقاط الجماعة والجمعة أن لا يقصد بأكله الإسقاط كما مر، وإن تعسر إزالته) [ تُحْفَةَ الْمُحْتَاجِ بِشَرْحِ الْمِنْهَاجِ 2 / 276 ، ومثله ما تقدم عن العلامة الرملي انظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2/ 160]
قال العلامة زكريا الأنصاري ـ رحمه الله ـ: (وتوقف في الجذام والبرص قال الزركشي: والمتّجه أنه يعذر بهما؛ لأن التأذّي بهما أشد منه بأكل الثوم. قال: وقد نقل القاضي عياض عن العلماء أن المجذوم والأبرص يمنعان من المسجد ومن صلاة الجمعة ومن اختلاطهما بالناس) [أسنى المطالب 1/ 215].
ومثل الجماعة صلاة الجمعة ، قال النووي ـ رحمه الله ـ: ((ولا جمعة على معذور بمرخص في ترك الجماعة) ، وقال ابن حجر شارحا لكلام النووي: ( مما يمكن مجيئه هنا لا كالريح بالليل. واستشكله جمع بأن من ذلك الجوع ويبعد ترك الجمعة به وبأنه كيف يلحق فرض العين بما هو سنة أو فرض كفاية قال السبكي لكن مستندهم قول ابن عباس – رضي الله عنهما – الجمعة كالجماعة. ويجاب: بما أشرت إليه آنفا وهو منع قياس الجمعة على الجماعة بل صح بالنص أن من أعذارها المرض فألحقوا به ما هو في معناه مما مشقته كمشقته أو أشد وهو سائر أعذار الجماعة فاتضح ما قالوه وبان أن كلام ابن عباس مقو لما سلكوه لا أنه الدليل لما ذكروه ) [تُحْفَةَ الْمُحْتَاجِ بِشَرْحِ الْمِنْهَاجِ2/99 ، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2/ 286]
وخلاصة المقال : أن الفقهاء نصّوا صراحة على أن المرض إن وُجِد محققاً في بلد أو في شخص، وقال به الأطباء فيمنع ذلك الشخص وأهل ذلك البلد من الصلاة في المسجد جماعة سواء الجماعات أو الجمعة ؛ حفاظاً على أرواح المسلمين، إذ تصلّى الصلاة في البيوت في جماعة، والحفاظ على الأرواح مقصد ديني عظيم ، قال الله تعالى : ((وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) ، وقال سبحانه : ((وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)) ، وأما إغلاق المساجد ومنع الناس من الصلوات والجمعة دون وجود الإصابة بهذا المرض المُعدي كالكورونا، ولم يصرّح مكتب الصحة في هذه البلد – اليمن وحضرموت خصوصا – أيّ حالة إصابة فلا يجوز شرعا منع المسلمين من الصلاة في بيوت الله تعالى؛ إذْ الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً ، فما دام أن المرض ـ بحمد الله تعالى ـ لم يصب به أحد منّا، فلم يوجد العذر الذي من أجله رُخّصت الشريعة بترك الجمعة والجماعات، ولا يصح بناء المنع على التوهم، فإن درء المفاسد أولى من جلب المصالح إذا تحققت المفسدة من الاجتماع، أما توهم أو شك المفسدة فلا يجوز الإعتماد عليها، مع أن المصلحة المتحققة من الصلاة في جماعة أو جمعة محققة ، فلا تزحزح إلا بوجود مفسدة محققة ، وأخشى على من يمنع أو يعطل الصلاة في جماعة أو الجمعة دون مقتضيات الترك أوالمنع أن يدخل فيمن أظلم ومنع إقامة الصلاة والذكر في بيوت الله تعالى، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [سورة البقرة : 114].
وعلى المصلين الاحتياط والوقاية بشتى طرقها من وسائل العدوى، خصوصا المرضى ومن مناعتهم ضعيفة كمرضى الربو والسكري ونحوهم والذين يتأثرون بأي ضرر فهؤلاء لهم عذر في ترك الجماعة والجمعة، مع وجوب الأخذ بالاحترازات المشددة، وذلك في منافذ البلاد، وفحص القادمين إليها ، وجعلهم في الحجز اللائق بهم حتى يتبيّن أنهم غير مُصابين بهذا المرض . والله تعالى أعلم بالصواب .
كتبه زين بن محمد العيدروس
أستاذ السنة المشرفة وعلوم الحديث المساعد بجامعة حضرموت ـ وخطيب جامع الروضة بالمكلا.
27/ رجب / 1441هــ
22/ 3 /2020م.