كتاب سبيل الادكار
Kitab Sabilul Iddikar, Karya Al Habib Abdullah bin Alwi Al Haddad
بسم الله الرحمن الرحيم
و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم
(سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنتَ العليم الحكيم)
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مدبر الأمور، ومقدر الأقدار، مولج النهار
في الليل، ومولج الليل في النهار، تبصرة وذكرى لأولى البصائر والأبصار.
فسبحانه وتعالى وتقدس، من ملك عظيم متكبر جبار، قديم أزلي دائم أبدي، حي قيوم، قضى
وحكم على خلقه بالفناء والانقضاء، والموت والبلاء، والتحول من حال إلى حال،
والانتقال من دار إلى دار، وتفرد بالدوام والبقاء على تطاول الدهور، وامتداد
الأعصار ، وتغاير الأطوار، وانصرام الأعمار.
أحمده بما حَمِدَ به نفسه، وبما حمده به عباده المخلصون الأبرار، من ملائكته
المقربين، وأنبيائه والمرسلين، وعباده الصالحين الأخيار.
والصلاة والسلام على عبده ورسوله، سيدنا ومولانا محمد، المصطفى المختار، الذي
أرسله رحمة للعالمين،
(1/9)
وختم به النبيين، وعلى أهل بيته الطيبين الأطهار، وأصحابه
المهاجرين و الأنصار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين والجزاء، وانقسام الناس
إلى فريقين، فريق في الجنة وفريق في النار.
أما بعد، فهذا مؤلف مبارك إن شاء الله، ألفناه لقصد التذكر والاعتبار، بما يمر
بالإنسان من الأعمار، ويحول به من الأحوال، ويختلف عليه من الأطوار من حين ينتقل
من صلب إلى رحم، إلى أن يستقر في إحدى الدارين : الجنة أو النار.
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتذكير ووصفه به، وجعل التذكر من وصف
المؤمنين، أهل الإنابة والخشية والقلوب والشهادة. قال تعالى: [ وذكّر فإن الذكرى
تنفع المؤمنين] الذاريات 51/55 . وقال تعالى: [ فذكّر فما أنت بنعمة ربّك بكاهن
ولا مجنون ] الطور:52/29. وقا ل تعالى: [ فذكّر إن نفعت الذكرى . سيذكّر من يخشى]
الأعلى:87/9-10 . قال تعالى: [فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ]
الغاشية:88/21-22 . وقال تعالى: [ وما يتذكّر إلا من ينيب ] غافر:40/13. وقال
تعالى: [ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ] ق:50/37 .
وقد بلغنا أنه لما نزل قوله تعالى: [ فتول عنهم فما أنت بملوم ] الذاريات:51/54.
حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، وخاف أنه دنا عذابهم ووقع الإياس
من هدايتهم، فأنزل الله على إثرها [ وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ]
الذاريات:51/55.
(1/10)
فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وسُرِّيَ عنه،
وذلك كله لما جبله الله عليه، وحققه به، من الرحمة والشفقة على العالمين، والحرص
البالغ على نصحهم، وقبولهم للحق والهدى لأن الله سبحانه وتعالى أرسله رحمة لهم، ووصفه
بذلك في كتابه فقال تعالى: [ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص
عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ] التوبة:9/128.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يشتد عليه إباؤهم وردهم للحق و الهدى، يشير إلى ذلك
قوله تعالى: [ فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ]
الكهف:18/6 أي مهلك نفسك .
ثم إن العمر هو: المدة المتمادية من الزمان، كما قال تعالى: [ قل لو شاء الله ما
تلوته عليكم و لا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون ]
يونس:10/16. وكان ذلك العمر أربعين سنة، من حين مولده صلى الله عليه وسلم، إلى حين
بعثه الله رسولاً وهو مقيم مع قومه بمكة المشرفة.
وقد استحسنا أن نقسم مدة الإنسان هذه المتطاولة، المتباعدة الطرفين، إلى خمسة
أعمار، مع أن للإنسان في كل من هذه الأعمار أحوالاً وأطواراً ليست له في العمر
الآخر، وله فيها نشأة مختلفة، فيما يعلم وفيما لا يعلم كما قال تعالى: [ وننشئكم
فيما لا تعلمون ] الواقعة:56/61. مع أنه بحقيقته التي هي حقيقته هو هو، ليست هي
غيره، وإن اختلفت به الأحوال، وتعاقبت عليه الأطوار، وله شعور بنفسه، و بما يجري
عليه من خير وشر، وثواب وعقاب.
(1/11)
وقد خطر لنا وضع هذا التأليف من مدة، ثم خطر لنا تأخيره إلى
أن تمضي الثالثة والستون من العمر، التي هي مدة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
على الصحيح كما ورد في ذلك. وقيل ستون سنة . وقيل خمس وستون سنة.
وقد مضت هذه المدة من السنين. وهي الآن في السابعة والستين، وقد مضت أشهر منها فنسأل
الله خير ذلك وبركته، وحسن ختامه ونعوذ بالله من شره وفتنته وسوء عواقبه؛ فإنه خير
مسؤول وأكرم مأمول .
ونسأله سبحانه ونبتهل إليه، أن يحيينا ما كانت الحياة خيراً لنا، ويتوفانا ما كانت
الوفاة خيراً لنا.
اللهمَّ لا تقدمنا لعذاب، ولا تؤخرنا لفتنة، اللهمَّ إنا نسألك خير الحياة وخير
الوفاة، وخير ما بين ذلك، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة، وشرَّ ما بين ذلك،
أحينا حياة السعداء، حياة من تحبُّ بقاءه، وتوَفَّنا وفاة الشهداء ، وفاة من تحبُّ
لقاءه .
واختم لنا بالحسنى والإحسان في لطف وعافية، وأحبابنا ومحبينا، وأوليائنا فيك،
والمسلمين، يا أرحم الراحمين، آمين.
(1/12)
واسم هذا المؤلف :(( سبيل الإدّكار والاعتبار بما يمر
بالإنسان وينقضي له من الأعمار)) .
نسأل الله تعالى عموم النفع به، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ومقرباً من رضاه
ومجاورته في جنات النعيم، بفضله ورحمته، وجوده و كرمه، إنه الجواد الكرم البر
الرحيم.
وهذا أوان الشروع في المقصود من الكتاب، والله الميسر والمعين، والهادي إلى الحق
والصواب. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وهو ربي لا إله إلا هو عليه
توكلت و إليه المتاب.
* * *
واعلم أنَّا نظرنا في جملة الأعمار التي تمرُّ على ابن آدم و يمرُّ عليها،
فوجدناها ترجع إلى خمسة، لكل واحد منها أجل، وللإنسان في كل واحد منها أطوار،
يتطوَّر فيها، وينتقل منها، وأحوال تحُولُ عليه. وللناس في ذلك اختلاف، وتوافق و
تباين .
العمر الأول منها: من حين خلق الله آدم عليه السلام، وضمن ظهره الذرية السعداء
منهم والأشقياء. فلم تزل تنتقل من صلب إلى رحم، ومن رحم إلى صلب، إلى أن خرج كل
واحد منهم من أبيه وأمه.
والعمر الثاني : من حين خروج الإنسان من بين أبويه إلى الدنيا، إلى وقت موته،
وخروجه من الدنيا.
(1/13)
والعمر الثالث : من حين خروج الإنسان من الدنيا بالموت، إلى
أن يبعثه الله بالنفخ في الصور، وتلك مدة البرزخ.
والعمر الرابع : من حين خروج الإنسان من قبره، أو من حيث شاء الله بالنفخ في
الصور، ليوم البعث والنشور، إلى الحشر إلى الله، والوقوف بين يديه للوزن والحساب،
والمرور على الصراط وأخذ الكتاب، إلى غير ذلك من مواقف القيامة وأحوالها، وشدائدها
وأهوالها.
و العمر الخامس : من وقت دخول الإنسان في الجنة إلى الأبد. وهذا هو العمر الذي لا
انقضاء له و لا غاية، أو من حين دخول أهل النار إلى النار .
وأحوالهم مختلفة في ذلك، فمنهم الخالد المؤبد بلا غاية ولا نهاية، وهم كافرون على
اختلاف أنواعهم، ومنهم الخارجون منها، وهم عصاة الموحدين إما بالشفاعة وإما
بغيرها، على حسب ما يأتي من التفصيل، عند شرح ذلك العمر الذي هو العمر الخامس.
ونحن نشرح كل واحد من هذه الأعمار شرحاً وجيزاً، يليق بالزمان والمكان، من غير
تطويل وإسهاب، ولا إيجاز مخل بحصول الفوائد المقصودة التي يقع عنها السؤال، وتمسُّ
الحاجة إلى شرحها، فأما التفصيل الكلي، فلا مطمع فيه، لأنه يستدعي شرحاً طويلاً
وبسطاً مملاً.
(1/14)
******************
******************
**** العُمرُ الأوّلُ ****
******************
******************
(1/15)
******************
******************
**** ****
******************
******************
(1/16)
العُمرُ الأوّلُ
وَهوَ مِنْ حِين خَلق الله آدَمَ عَلَيْهِ السَلاَم. وَأودَع
الذرِيَّة في صُلبه المبَارك . أهْلَ اليَمين وَأهْلَ الشِّمَال
وَهُمْ أهْلُ القَبضَتَين مِنَ اليَدَين اليمنيين المقَّدَسَتَين
وقد استخرج الله هذه الذرية من ظهر آدم، بعد أن أودعها فيه، حين أخرجهم دفعة
واحدة، لأخذ الميثاق عليهم، بالإقرار بالوحدانية والربوبية، وذلك بنعمان: واد قريب
من عرفات، كما ورد ذلك في قوله تعالى: [ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم
و أشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا
عن هذا غافلين] الأعراف:7/172 والآية التي تليها.
وفي الخبر أو الأثر: أنه سبحانه لما أخذ عليهم ذلك الميثاق، كتب عليهم به كتاباً،
وألقمه الحجر الأسود. وذلك معنى قول المستلم للحجر، عند الطواف بالبيت العتيق:
اللهم إيماناً بك، ووفاءً بعهدك، وتصديقاً بكتابك .
ولا شك أن ذلك يقتضي أن للذرية، وجوداً سمعاً ونطقاً، ولكنه في مرتبة أخرى من
مراتب الوجود، ليست هذه المرتبة من الوجود الدنيوي.
(1/17)
ومراتب الوجود كثيرة، كما يعرف ذلك أهل العلم به وبها.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنه كان نبياً وآدم بين الماء
والطين، وبين الروح والجسد، وأنه هبط مع آدم حين أهبط، وكان مع نوح حين ركب
السفينة ومع إبراهيم حين ألقي في نار النمرود )) .
وهذا وإن كان عاماً في جميع الذرية، التي كانت في أصلاب هؤلاء النبيين المذكورين،
عليهم الصلاة والسلام، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك وجود أتم وأكمل.
ولعل ذلك كان بعلم منه، وشعور بقي معه في تلك الحال،صلى الله عليه وسلم إلى حين
ظهوره في العالم الدنيوي، وقوله ذلك ليتميز، عليه الصلاة والسلام من غيره، بما خص
به نفسه، ونبّه به على خصوصيته.
وأما غيره من الذرية، فيحتمل أنه كان لهم شعور ما في تلك الأحوال سيما عند أخذ
الميثاق، ولكنه لم يبق لهم ذلك، لا علماً ولا شعوراً، كما بقي له صلى الله عليه
وسلم .
وقد كانت الذرية في ظهر آدم لا محالة حتى في الجنة، ويدل عليه ما ذكر في حديث
الشفاعة “وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم”.
وفي محاجَّة موسى لآدم عليهما السلام : ” أنت الذي أخرجت الناس من الجنة
بخطيئتك” الحديث .
(1/18)
وورد أيضاً: إن الله تعالى لما استخرج الذرية من ظهر آدم
عليه السلام، فرأتهم الملائكة عليهم السلام، وقد ملئوا السهل والوعر، قالوا: يا
ربنا لا تسعهم الدنيا، فقال الله تعالى:” إني جاعل موتاً “، فقالوا :
إذاً لا يهنؤهم العيش، فقال تعالى: “إني جاعل أملاً ” .
وورد أيضاً: أن الله لما استخرج الذرية من ظهر آدم عليه السلام، فرأى منهم واحداً
جميل الصورة، فسأل عنه فقيل له: هو ولدك داود عليه السلام، فسأل آدم ربه: كم كتبت
لداود من العمر؟ قال تعالى : ستين سنة. فسأل ربه تعالى له الزيادة من العمر فقال
سبحانه وتعالى: هذا الذي كتبت له. فقال آدم عليه السلام : أزد له من عمري أربعين
سنة، وكان الله سبحانه قد كتب لآدم من العمر ألف سنة. والحديث معروف ومشهور.
ولما رأى موسى عليه السلام في التوراة، أمة موصوفة بأوصاف حميدة، ومنعوتة بنعوت
كريمة، سأل عن تلك الأمة ربه: من هي؟ وأي نبي نبيها؟ وأن يجعلها أمته. فقال الله
تعالى : هي أمة أحمد، صلوات الله وسلامه عليهما. فسأل ربه: أن يظهر تلك الأمة له.
فأظهرها له سبحانه وتعالى. ولعلَّ هذا الخبر يأتي بتمامه في آخر هذا العمر. وهو
مذكور في بعض التفاسير عند قوله : (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ) القصص:28/46.
الآية .
(1/19)
فتبين بما ذكرناه، وبما لم نذكره، مما في معناه: أن للذرية
وجوداً قبل بروزها إلى هذا العالم الدنيوي. وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وجوداً وظهوراً في ذلك أتم وأكمل.
وقد أشار إليه العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنه، في أبيات له
يمتدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. منها: قوله:
من قبلها طبت في الظلال وفي … مستودع حيث يخصف الورقُ
ثم هبطت البلاد لا بشر … أنت ولا مضغة و لا علقُ
بل نطفة تركب السفين وقد … ألجم نسراً وأهله الغرقُ
تنقل من صلب إلى رحم … إذا مضى عالمٌ بدا طبقُ
إلى أن قال :
حتى احتوى بيتك المهيمن من … خندف علياء دونها النطقُ
ونسر: من أصنام قوم نوح عليه السلام. وخندف: امرأة إلياس بن مضر، وهي جدة رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وروي أن آدم صلى الله عليه وسلم ، كان يسمع تسبيح نور رسول الله صلى الله عليه
وسلم، نشيشاً في ظهره كنشيش الطائر. فلما حملت حواء بشيث، عليهما السلام، انتقل
ذلك إليها، ثم إلى شيث عليه السلام، ثم لم يزل ينتقل ذلك النور في الأصلاب
الطاهرة، والأرحام الزاهرة، إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بين
أبويه الكريمين، لم يصبه شئ من أدناس الجاهلية وأقذارها، وقد كانت لهم أنكحة
باطلة، طهره الله منها صلوات الله عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: خرجت من
نكاح ولم أخرج من سفاح .
(1/20)
وفي تفسير قوله تعالى : [ الذي يراك حين تقوم وتقلبك في
الساجدين ] الشعراء:26/218-219 عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ذلك انتقاله عليه
أفضل الصلاة والسلام، من صلب نبي إلى نبي آخر، مثل إسماعيل وإبراهيم ونوح وشيث
وآدم، عليهم السلام. وهذا لا خلاف فيه.
وأما التقاؤه صلوات الله وسلامه عليه بآدم في السماء الدنيا، فذلك ليلة المعراج،
وهو صلوات الله عليه في عمره الدنيوي، وآدم في البرزخ.
وأما الأسودة التي رآها عن يمين آدم وعن شماله، فسأل عنها قيل: إنها نسم بنيه.
فيحتمل أنهم الذين قد ماتوا وظهرت أعمالهم المميزة لهم ويحتمل غير ذلك.
وأما التقاء موسى عليه السلام بآدم، حيث حاجّه، فيحتمل أن يكون وهما في البرزخ
جميعاً، ويحتمل غيره. والله أعلم بحقيقة الحال.
* * *
(1/21)
خاتمة هذا العمر
فيما وقع به الوعد من إيراد ذلك الخبر أو الأثر المذكور بتمامه ، في صفة الأمة
المحمدية .
قال وهب بن منبه، رحمة الله: لما قرأ موسى عليه السلام الألواح، وجد فيها فضيلة
أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: يا رب ما هذه الأمة المحمدية التي أجدها في الألواح ؟
قال: هم أمة أحمد، يرضون مني باليسير من الرزق أعطيهم إياه، وأرضى منهم باليسير من
العمل، أدخل أحدهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله.
قال: فإني أجد في الألواح أمةً يحشرون يوم القيامة، وجوههم على صورة القمر ليلة
البدر، فاجعلهم أمتي.
قال: هم أمة أحمد، أحشرهم يوم القيامة غرّاً محجلين من آثار الوضوء و السجود.
قال : يا ربِّ إني أجد في الألواح أمةً أرديتهم على ظهورهم، وسيوفهم على عواتقهم،
أصحاب توكُّلٍ ويقين، يُكَبِّرون على رؤوس الصوامع، يطلبون الجهاد بكل حقٍّ ، حتى
يقاتلون الدجَّال فاجعلهم أمتي.
(1/22)
قال: هم أمة أحمد .
قال:يا رب إني أجد في الألواح أمةً يصلون في اليوم و الليلة خمس صلوات، في خمس
ساعات من النهار، وتفتح لهم أبواب السماء، وتنزل عليهم الرحمة، فاجعلهم أمتي.
قال : هم أمة أحمد .
قال:يا رب إني أجد في الألواح أمة، تكون الأرض لهم مسجداً وطهوراً، وتحل لهم
الغنائم، فاجعلهم أمتي.
قال : هم أمة أحمد .
قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يصومون لك شهر رمضان، فتغفر لهم ما كان قبل
ذلك، فاجعلهم أمتي.
قال : هم أمة أحمد .
قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يحجون لك البيت الحرام، لا يقضون منه وطراً،
يعجون بالبكاء عجيجاً، ويضجون بالتلبية ضجيجاً، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال : فما تعطيهم على ذلك؟
قال : أزيدهم المغفرة، وأشفعهم فيمن وراءهم.
قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة سفهاء، قليلة أحلامهم، يعلفون البهائم،
ويستغفرون من الذنوب، يرفع أحدهم اللقمة إلى فيه، فلا تستقر في جوفه حتى يغفر له،
يفتتحها باسمك، ويختمها بحمدك، فاجعلهم أمتي .
(1/23)
قال : هم أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هم السابقون يوم القيامة، وهم الآخرون في
الخلق، رب اجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في الصدور يقرءونها، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة، إذا هم أحدهم بحسنة يعملها، فلم يعملها، كتبت
له حسنة واحدة. إن عملها كتب له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فاجعلهم أمتي.
قال : تلك أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا هّم أحدهم بالسيئة، ثم لم يعملها لم تكتب
عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، فاجعلهم أمتي .
قال : تلك أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هم خير الناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن
المنكر، فاجعلهم أمتي .
(1/24)
قال : هم أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة، يحشرون يوم القيامة على ثلاث ثلل : ثلة
يدخلون الجنة بغير حساب، وثلة يحاسبون حساباً يسيراً ، وثلة يمحصون ثم يدخلون
الجنة ، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال موسى : يا رب بسطت هذا الخير لأحمد و أمته، فاجعلني من أمته .
قال الله : يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي فخذ ما آتيتك وكن من
الشاكرين.
وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوماً
لأصحابه : ما تقولون في الآية : [ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ]. القصص 28/46
فقالوا : الله ورسوله أعلم .
فقال : لما كلم الله موسى عليه السلام قال : يا رب هل خلقت خلقاً أكرم عليك مني ؟
اصطفيتني على البشر ، وكلمتني بطور سيناء .
قال : يا موسى أما علمت أن علمت أن محمداً أكرم عليّ من جميع خلقي . وإني نظرت في
قلوب عبادي ، فلم أجد قلباً أشدَّ تواضعاً من قلبك .
(1/25)
فلذلك اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي فمت على التوحيد
و على حب محمد صلى الله عليه وسلم .
قال موسى : يا رب فهل في الأمم أكرم عليك من أمتي، ظللت عليهم الغمام ، وأنزلت
عليهم المن و السلوى .
فقال الله تعالى : يا موسى أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر الأمم ، كفضلي على
جميع خلقي.
قال موسى : يا رب أفأراهم ؟
قال : لم تراهم ، ولكن إن أحببت أن تسمع كلامهم فعلت .
قال : فإن أحب ذلك .
قال : الله تعالى : يا أمة محمد . فأجابوا كلهم بصيحة واحدة يقولون : لبيك اللهم
لبيك ، وهم في أصلاب آبائهم .
ثم قال الله تعالى : صلاتي وسلامي عليكم ، ورحمتي سبقت غضبي ، وعفوي سبق عذابي .
وإني قد غفرت لكم قبل أن تستغفروني، واستحببت لكم قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن
تسألوني . فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، غفرت له
ذنوبه ، فأراد الله أن يمن عليّ بذلك ، فقال تعالى : [ وما كنت بجانب الطور إذ
نادينا ] القصص 28/46 أمتك حتى أسمعنا موسى كلامهم . انتهى.
ذكره الشيخ العارف عبد العزيز الديريني رحمة الله في طهارة القلوب .
(1/26)